فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (26- 29):

قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المراد من هذا الاستكبار محو الحق وإخفاء أمره من غير تصريح بالعناد- بل مع إقامة شبه ربما راجت- وإن اشتد ضعفها- على عقول هي أضعف منها، وكأن هذا حقيقة المكر التي هي التغطية والستر كما بين في الرعد عند قوله تعالى: {بل زين للذين كفروا مكرهم} [الرعد: 23]. شرع يهدد الماكرين ويحذرهم وقوع ما وقع بمن كانوا أكثر منهم عددًا وأقوى يدًا، ويرجي المؤمنين في نصرهم عليهم، بما له من عظيم القوة وشديد السطوة، فقال تعالى: {قد مكر الذين} ولما كان المقصود بالإخبار ناسًا مخصوصين لم يستغرقوا زمان القبل، أدخل الجار فقال تعالى: {من قبلهم} ممن رأوا آثارهم ودخلوا ديارهم {فأتى الله} أي بما له من مجامع العظمة {بنيانهم} أي إتيان بأس وانتقام {من القواعد} التي بنوا عليها مكرهم {فخر} أي سقط مع صوت عظيم لهدته {عليهم السقف}.
ولما كانت العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط- إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه كما نقله أبو حيان عن ابن الأعرابي، قال تعالى صرفًا عن هذا إلى حقيقة السقوط المقيد بالجار: {من قولهم} وكانوا تحته فهلكوا كما هو شأن البنيان إذا زالت قواعده.
ولما كان المكر هو الضر في خفية، لأنه القتل بالحيلة إلى جهة منكرة، بين أن ما حصل لهم من العذاب هو من باب ما فعلوا بقوله: {وأتاهم العذاب} أي الذي اتفقت كلمة الرسل على الوعيد به لمن أبى {من حيث لا يشعرون} لأن السبب الذي أعدوه لنصرهم كان بعينه سبب قهرهم، وهذا على سبيل التمثيل، وقيل: إنه على الحقيقة فيما بناه نمرود من الصرح.
ذكر قصته من التوراة:
قال في السفر الأول منها في تعداد أولاد نوح عليه السلام: وكوش- يعني ابن حام بن نوح- ولد نمرود، وكان أول جبار في الأرض، وهو كان مخوفًا ذا صيد بين يدي الرب، ولذلك يقال: هذا مثل نمرود الجبار القناص، فكان مبدأ ملكه بابل والكوش والأهواز والكوفة التي بأرض شنعار، ومن تلك الأرض خرج الموصلي فابتنى نينوى ورحبوت القرية- وفي نسخة: قرية الرحبة- والإيلة والمدائن؛ ثم قال بعد أن عد أحفاد نوح عليه السلام وممالكهم: هؤلاء قبائل بني نوح وأولادهم وخلوفهم وشعوبهم، ومن هؤلاء تفرقت الشعوب في الأرض بعد الطوفان، وإن أهل الأرض كلهم كانت لغتهم واحدة، ومنطقهم واحدًا، فلما ظعنوا في المشرق انتهوا إلى قاع في أرض شنعار- وفي نسخة: العراق- فسكنوه، فقال كل امرىء منهم لصاحبه: هلم بنا نلبن اللبن ونحرقه بالنار، فيصير اللبن مثل الحجارة ويصير الجص بدل الطين للملاط، ثم قال: هلموا! نبن لنا قرية نتخذها، وصرحًا مشيدًا لاحقًا بالسماء، ونخلف لنا شيئًا نذكر به، لعلنا ألا نتفرق على الأرض كلها، فنظر الرب القرية والصرح الذي يبينه الناس، فقال الرب: إني أرى هذا الشعب رأيهم واحد ولغتهم واحدة وقد هموا أن يصنعوا هذا الصنيع فهم الآن غير مقصرين فيما هموا أن يفعلوه، فلأورد أمرًا أشتت به لغتهم حتى لا يفهم المرء منهم لغة صاحبه، ثم فرقهم الرب من هنالك على وجه الأرض كلها، ولم يبنوا القرية التي هموا ببنائها، ولذلك سميت بابل لأن هنالك فرق الرب لغة أهل الأرض كلها- انتهى.
قال لي بعض علماء اليهود: إن بابل معرب بوبال، ومعنى بوبال بالعبراني الشتات- هذا ما في التوراة، وأما المفسرون فإنهم ذكروا أن الصرح بني على هيئة طويلة في الطول والإحكام، وأن الله تعالى هدمه، فكانت له رجة تفرقت لعظم هولها لغة أهل الأرض إلى أنحاء كثيرة لا يحصيها إلا خالقها فالله أعلم.
ولما بين سبحانه وتعالى حال المكرة المتمردين عليه في الدنيا، أخذ يذكر حالهم في الآخرة تقريرًا للآخرة وبيانًا لأن عذابهم غير مقصور على الدنيوي، فقال تعالى: {ثم يوم القيامة يخزيهم} أي الله تعالى الذي فعل بهم في الدنيا ما تقدم، خزيًا يشهده جميع الخلائق الوقوف في ذلك اليوم، فيحصل لهم من الذل- جزاء على تكبرهم- ما يجل عن الوصف، وعطفه ب {ثم} لاستبعادهم له ولما له من الهول والعظمة التي يستصغر لها كل هول {ويقول} أي لهم في ذلك الجمع تبكيتًا وتوبيخًا: {أين شركاءي} على ما كنتم تزعمون، وأضاف سبحانه إلى نفسه المقدس لأنه أقطع في توبيخهم وأدل على تناهي الغضب {الذين كنتم} أي كونًا لا تنفكون عنه {تشاقون فيهم} أوليائي، فتكونون بمخالفتهم في شق غير شقهم، فتخضعون لما لا ينبغي الخضوع له، وتتكبرون على من لا ينبغي الإعراض عنه، ما لهم لا يحضرونكم ويدفعون عنكم في هذا اليوم؟ وقرئ بكسر النون لأن مشاققة المأمور مشاققة الآمر.
ولما كان المقام للجلال والعظمة المستلزم لزيادة الهيبة التي يلزم عنها غالبًا خرس المخزي عن جوابه لو كان له جواب، وكان من أجل المقاصد في تعذيبهم العدل بتفريح الأولياء وإشماتهم بهم، جزاء لما كانوا يعملون بهم في الدنيا، وكانت الشماتة أعلى محبوب للشامت وأعظم مرهوب للمشموت فيه، وأعظم مسلّ للمظلوم، دل على سكوتهم رغبًا عن المبادرة بالجواب بتأخير الخبر عنه وتقديم الخبر عن شماتة أعدائهم فيهم في سياق الجواب عن سؤال من قال: هل علم بذلك المؤمنون؟ فقيل: {قال الذين} ولما كان العلم شرفًا للعالم مطلقًا، بني للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي انتفعوا به في سلوك سبيل النجاة من الأنبياء عليهم السلام ومن أطاعهم من أممهم، إشارة إلى أن الهالك يصح سلب العلم عنه وإن كان أعلم الناس، وعدل عن أن يقول: أعداؤهم أو المؤمنون ونحوه، إجلالًا لهم بوصفهم بالعلم الذي هو أشرف الصفات لكونه منشأ كل فضيلة، وتعرضًا بأن الحامل للكفار على الاستكبار الجهل الذي هو سبب كل رذيلة {إن الخزي} أي البلاء المذل {اليوم} أي يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة {والسوء} أي كل ما يسوء {على الكافرين} أي العريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، لا على غيرهم؛ ثم رغبهم في التوبة بقوله: {الذين تتوفّاهم} بالفوقية في قراءة الجمهور لأن الجمع مؤنث، وبالتحتية في قراءة حمزة لأن المجموع غير مؤنث، وكان وفاتهم على وجهين: وجه خفيف- بما أشار إليه التأنيث لخفة كفر صاحبه، وآخر ثقيل شديد لشدة كفر صاحبه، ولم يحذف شيء من التاءين للإشارة إلى نقصان حالهم لأنه لا يمكن خيرها لموتهم على الكفر بخلاف ما تقدم في تارك الهجرة في النساء {الملائكة} أي المؤكلون بالموت، حال كونهم {ظالمي أنفسهم} بوضعها من الاستكبار على الملك الجبار غير موضعها.
فلما تم ذلك على هذا الوجه البديع، والأسلوب الرفيع المنيع، ابتدأ الخبر عن جوابهم على وجه معلم بحالهم فقال: {فألقوا} أي من أنفسهم عقب قول الأولياء وبسبب سؤال ذي الكبرياء {السلم} أي المقادة والخضوع بدل ذلك التكبر والعلو قائلين ارتكابًا للكذب من غير احتشام: {ما كنا نعمل} وأعرقوا في النفي فقالوا: {من سوء} فكأنه قيل: إن هذا لبهتان عظيم في ذلك اليوم الجليل، فماذا قيل لهم؟ فقيل: {بلى} قد عملتم أعظم السوء؛ ثم علل تكذيبهم بقوله: {إن الله} أي المحيط بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم من كل وجه {بما كنتم} أي جبلة وطبعًا {تعملون} أي من الضلال والإضلال، فلا يسعكم الإنكار، أفما آن لكم أن تنزعوا عن الجهل فيما يضركم ولا ينفعكم ويخفضكم ولا يرفعكم!
ولما كان هذا الفعل مع هذا العلم سببًا لدخول جهنم من غير أن يقام لهم وزن، لأنه لا وزن لما ضيع أساسه، قال معقبًا مسببًا: {فادخلوا} أي أيها الكفرة {أبواب جهنم} أي أبواب طبقاتها ودركاتها {خالدين} أي مقدرين الخلد {فيها} أي في جهنم التي دأبها تجهم من دخلها.
ولما كان هذا المقام للمشاققة.
وكان أمرها زائد القباحة.
كان هذا الدخول أقبح دخول، وكان سببًا لأن يقال: {فلبئس} بالأداة الجامعة لمجامع الذم {مثوى المتكبرين} على وجه التأكيد وبيان الوصف الذي استحقوا به ذلك، لتقدم كذبهم في قولهم {ما كنا نعمل من سوء} تعريضًا بأنهم جديرون- لغاية ما لهم من البلادة- أن يستحسنوا النار كما كذبوا مع العلم التام بأنه لا يروج في ذلك اليوم كذب. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{شركاي} مثل {هداي} زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي، وقرأ الخزاز عن هبيرة {شركائي الذين} مرسلة الياء، الباقون بفتح الياء وكذلك في الكهف والقصص. {تشاقون} بكسر النون: نافع، الآخرون بفتحها {تتوفاهم} وما بعده بالإمالة: حمزة وخلف {لا يهدي} بفتح الياء وكسر الدال: عاصم وحمزة وعلي وخلف، الباقون بضم الياء وفتح الدال. {كن فيكون} بالنصب: ابن عامر وعلي، الباقون بالرفع.

.الوقوف:

{ربكم} لا لأن ما بعده جواب (إذا) {الأولين} o لا لتعلق اللام {يوم القيامة} لا لأن قوله {ومن أوزار} مفعول {ليحملوا} ط {بغير علم} ط {ما يزرون} o {لا يشعرون} o {فيهم} ط {الكافرين} o لا بناء على أن ما بعده صفة {أنفسهم} ص لطول الكلام {من سوء} ط {تعملون} o {خالدين فيها} ط {المتكبرين} o {أنزل ربكم} ط {خيراً} ط {حسنة} ط {خير} ط {المتقين} o لا لأن ما بعده بدل {يشاءون} ط {المتقين} o {طيبين} o لا لأن ما بعده حال آخر. {سلام عليكم} لا لأن قوله: {ادخلوا} مفعول {يقولون} {تعملون} o {أمر ربك} ط {من قبلهم} ط {يظلمون} o {يستهزءُون} o {من شيء} الثاني ط {من قبلهم} ج للاستفهام مع الفاء {المبين} o {الطاغوت} ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى {الضلالة} ط {المكذبين} o {ناصرين} o {أيمانهم} لا لأن ما بعده جواب القسم {يموت} ط {لا يعلمون} o لا لتعلق لام كي {كاذبين} o {فيكون} o {حسنة} ط {أكبر} م لأن جواب (لو) محذوف أي لو كانوا يعلمون لما اختاروا الدنيا على الآخرة، ولو وصل لصار قوله: {ولأجر الآخرة} متعلقاً بشرط (أن) {لو كانوا يعلمون} وهو محال {يعلمون} o لا بناء على أن {الذين صبروا} بدل {الذين هاجروا} {يتوكلون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}.
اعلم أن المقصود من الآية المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار، وفي المراد بالذين من قبلهم قولان:
القول الأول: وهو قول الأكثر من المفسرين أن المراد منه نمروذ بن كنعان بنى صرحًا عظيمًا ببابل طوله خمسة آلاف ذراع.
وقيل فرسخان، ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فالمراد بالمكر هاهنا بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء.
والقول الثاني: وهو الأصح، أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين.
أما قوله تعالى: {فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
أن الإتيان والحركة على الله محال، فالمراد أنهم لما كفروا أتاهم الله بزلازل قلع بها بنيانهم من القواعد والأساس.
المسألة الثانية:
في قوله: {فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد} قولان:
القول الأول: أن هذا محض التمثيل، والمعنى أنهم رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فجعل الله تعالى حالهم في تلك المنصوبات مثل حال قوم بنوا بنيانًا وعمدوه بالأساطين فانهدم ذلك البناء، وضعفت تلك الأساطين، فسقط السقف عليهم.
ونظيره قولهم: من حفر بئرًا لأخيه أوقعه الله فيه.
والقول الثاني: أن المراد منه ما دل عليه الظاهر، وهو أنه تعالى أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته، والأول أقرب إلى المعنى.
أما قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} ففيه سؤال: وهو أن السقف لا يخر إلا من فوقهم، فما معنى هذا الكلام.
وجوابه من وجهين: الأول: أن يكون المقصود بالتأكيد.
والثاني: ربما خر السقف، ولا يكون تحته أحد، فلما قال: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته، وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها.
وقوله: {وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} إن حملنا هذا الكلام على محض التمثيل فالأمر ظاهر.
والمعنى: أنهم اعتمدوا على منصوباتهم.
ثم تولد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر فالمعنى أنه نزل ذلك السقف عليهم بغتة، لأنه إذا كان كذلك كان أعظم في الزجر لمن سلك مثل سبيلهم، ثم بين تعالى أن عذابهم لا يكون مقصورًا على هذا القدر، بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة، والخزي هو العذاب مع الهوان، وفسر تعالى ذلك الهوان بأنه تعالى يقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ} وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الزجاج: قوله: {أَيْنَ شُرَكَائِىَ} معناه: أين شركائي في زعمكم واعتقادكم.
ونظيره قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤكُمْ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]، وقال أيضًا: {وَقَالَ شُرَكَاؤهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28]، وإنما حسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، وهذا كما يقال لمن يحمل خشبة خذ طرفك وآخذ طرفي، فأضيف الطرف إليه.
البحث الثاني: قوله: {تشاقون فِيهِمْ} أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، وقيل: المشاقة عبارة عن كون أحد الخصمين في شق وكون الآخر في الشق الآخر.
البحث الثالث: قرأ نافع: {تشاقون} بكسر النون على الإضافة، والباقون بفتح النون على الجمع.
ثم قال تعالى: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزى اليوم والسوء عَلَى الكافرين} وفيه بحثان:
البحث الأول: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} قال ابن عباس: يريد الملائكة، وقال آخرون هم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين، والفائدة فيه أن الكفار كانوا ينكرون على المؤمنين في الدنيا فإذا ذكر المؤمن هذا الكلام يوم القيامة في معرض إهانة الكافر كان وقع هذا الكلام على الكافر وتأثيره في إيذائه أكمل وحصول الشماتة به أقوى.
البحث الثاني: المرجئة احتجوا بهذه الآية على أن العذاب مختص بالكافر قالوا لأن قوله تعالى: {إِنَّ الخزى اليوم والسوء عَلَى الكافرين} يدل على أن ماهية الخزي والسوء في يوم القيامة مختصة بالكافر، وذلك ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم، وتأكد هذا بقول موسى عليه السلام: {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48]. ثم أنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكفار من وجه آخر فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} قرأ حمزة: {يتوفاهم الملائكة} بالياء لأن الملائكة ذكور، والباقون بالتاء للفظ.
ثم قال: {فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} وفيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت، قال ابن عباس: أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت.
وقوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} أي قالوا ما كنا نعمل من سوء! والمراد من هذا السوء الشرك، فقالت الملائكة ردًا عليهم وتكذيبًا: بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون من التكذيب والشرك، ومعنى بلى ردًا لقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} وفيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت.
والقول الثاني: أنه تم الكلام عند قوله: {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة، والمعنى: أنهم يوم القيامة ألقوا السلم وقالوا ما كنا نعمل في الدنيا من سوء، ثم هاهنا اختلفوا، فالذين جوزوا الكذب على أهل القيامة، قالوا: هذا القول منهم على سبيل الكذب وإنما أقدموا على هذا الكذب لغاية الخوف، والذين قالوا إن الكذب لا يجوز عليهم قالوا: معنى الآية، ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا أو في اعتقادنا، وأما بيان أن الكذب على أهل القيامة هل يجوز أم لا؟ فقد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا: ما كنا نعمل من سوء قال بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون، ولا يبعد أن يكون قائل هذا القول هو الله تعالى أو بعض الملائكة ردًا عليهم وتكذيبًا لهم، ومعنى بلى الرد لقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} وقوله: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني أنه عالم بما كنتم عليه في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب فإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم.
ثم صرح بذكر العقاب فقال: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}.
وهذا يدل على تفاوت منازلهم في العقاب، فيكون عقاب بعضم أعظم من عقاب بعض، وإنما صرح تعالى بذكر الخلود ليكون الغم والحزن أعظم.
ثم قال: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} على قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء، وتفسير التكبر قد مر في هذا الكتاب غير مرة، والله أعلم. اهـ.